تقدير موقف | قراءة في مواقف المجتمع العربيّ تجاه الحرب على غزّة

يجب عدم تجاهل هذه الأجواء وتأثيرها المباشر وغير المباشر على مواقف المجتمع العربيّ، وتعامله الحذِر مع الأسئلة الواردة في الاستطلاعات نتيجة أجواء الخوف والملاحقة.

تقدير موقف | قراءة في مواقف المجتمع العربيّ تجاه الحرب على غزّة

يبكين أعزائهن الشهداء في غزة (Getty Images)

تَعْرض ورقة الموقف هذه قراءة في استطلاعات الرأي العامّ التي أُجرِيَت لدى المجتمع العربيّ بعد اندلاع الحرب على غزّة، من بينها استطلاع معهد كونراد أدنوار للتعاون اليهوديّ العربيّ،[1] والمعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة،[2] ومركز أبحاث الأمن القوميّ في جامعة تل أبيب،[3] ومعهد أكورد لعلم النفس الاجتماعيّ في الجامعة العبريّة.[4] تناولت تلك الاستطلاعات - في ما تناولت - مواقف المجتمَعَيْن العربيّ واليهوديّ في عدّة محاور تتعلّق بالحرب، منها: الشعور بالأمن الشخصيّ؛ إسقاطات الحرب على العلاقات اليهوديّة العربيّة؛ المواقف تجاه عمليّة طوفان الأقصى والحرب على غزّة؛ الآثار الاقتصاديّة للحرب.

ترى ورقة الموقف هذه أنّه من الصعب فَهْمُ وتحليلُ مواقف المجتمع العربيّ تجاه الحرب، وتجاه العلاقات مع المجتمع اليهوديّ، وتقييمُ أبناء هذا المجتمع للأمان الشخصيّ، بمعزل عن كلّ ممّا يلي:

سياق الحرب الحاليّ، والترهيب والإخراس والملاحَقة السياسيّة تجاه المواطنين العرب، ووضعهم في خانة "العدوّ".

منع المؤسّسة الأمنيّة أيّ مظاهر احتجاج أو تظاهرات للتعبير عن رأي مُعارِض للحرب والقتل والدمار.

أخْذ مَحاور الاستطلاعات وفحوى الأسئلة في الاعتبار؛ فهي تعكس اهتمامات المؤسَّسات الإسرائيليّة المبادرة لهذه الاستطلاعات.

مواقف المجتمع العربيّ السابقة؛ إذ لا تَعْرض الاستطلاعات الحاليّة تحوُّلًا جِدِّيًّا في مواقف المجتمع العربيّ في غالبيّة المجالات، بل هي استمرار لمواقف سابقة.

تعكس نتائج الاستطلاعات مشاعرَ طبيعيّةً لمجتمع مضطهَد ومُلاحَق، في ظلّ حرب صعبة لم يشهدها سابقًا، وحالةَ جنون لدى صُنّاع القرار في إسرائيل، وهلعًا وخوفًا يغذّيان الرغبة في الانتقام لدى غالبيّة المجتمع الإسرائيليّ.

التعبير عن الرأي في سياق التهديد والترهيب والإخراس

منذ يوم الحرب الأوّل على غزّة، تعاملت المؤسَّسة الإسرائيليّة، السياسيّة والأمنيّة، مع المواطنين العرب في إسرائيل كجزء من "العدوّ". فقد ادّعى رئيس الوزراء نتنياهو في أحد خطاباته في الأيّام الأولى من الحرب أنّ إسرائيل تواجه أربع جبهات: جبهة غزّة؛ جبهة الضفّة الغربيّة؛ جبهة الشمال؛ الجبهة الداخليّة. وكان واضحًا أنّ المقصود بالأخيرة هو المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل. كذلك صرّح وزير الأمن القوميّ بن ﭼْﭭـير أنّ الشرطة تتجهّز لمنع أيّ تظاهرات وعمليّات "إخلال بالنظام" وأيّ تضامن من قِبل المواطنين العرب مع غزّة، وسرّع عمليّة توزيع الأسلحة على المواطنين اليهود وإقامة وَحدات حراسة في بلدات إسرائيليّة لمواجهة أيّ طارئ.

وضْع المواطنين العرب في خانة الاتّهام، واحتمال تنظيمهم لتظاهرات شبيهة بأحداث أيّار عام 2021، كان حاضرًا في تقييمات أجهزة الأمن الإسرائيليّة منذ عام 2021، ولا سيّما من قبل وزير الأمن القوميّ الذي أنشأ وَحدات حرس قوميّ للتعامل مع أحداث مماثلة، إلى جانب تحريضه الدائم ضدّ المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل. هذا التعامل سبق الحرب على غزّة وعبّر عنه في مناسبات عديدة. ومنذ اليوم الأوّل للحرب، منعت الأجهزة الأمنيّة كلّ محاولة للتعبير عن الرأي ومواقف ضدّ الحرب وضدّ قتل الأطفال والأبرياء، وأوقفت واعتقلت العشرات من المواطنين العرب، على نحوِ ما وضّحنا في ورقة الموقف السابقة.[5]

عمليّة طوفان الأقصى والحرب على غزّة خلقت جوًّا من الخوف وعدم اليقين لدى عامّة المواطنين، من ضمنهم المواطنون الفلسطينيّون، وأضافت توتُّرًا للعلاقات (المتوتّرة أصلًا) بين المواطنين اليهود والعرب. الحرب على غزّة جاءت في سياق تعميق السياسات العنصريّة والترهيب المعمول بها تجاه المواطنين العرب، خاصّة في الحكومة الحاليّة.

هذه الأجواء المحيطة باستطلاعات الرأي العامّ التي تنفَّذ منذ بداية الحرب على غزّة، بغية فَهم موقف المواطنين الفلسطينيّين تجاه الحرب وإسقاطاتها. لذا، يجب عدم تجاهل هذه الأجواء وتأثيرها المباشر وغير المباشر على مواقف المجتمع العربيّ، وتعامله الحذِر مع الأسئلة الواردة في الاستطلاعات نتيجة أجواء الخوف والملاحقة.

تراجع الشعور بالأمن والأمان الشخصيّ والجماعيّ

وَفقًا لاستطلاع مركز كونراد أدنوار (الذي فحَصَ مواقف المجتمع العربيّ فقط)، كان للحرب على غزّة تأثير سلبيّ كبير على شعور المواطنين الفلسطينيّين بالأمان الشخصيّ، وكذلك تضرّرت أوضاعهم الاقتصاديّة نتيجة للحرب. فقد أفادت الغالبيّة العظمى من المستطلَعين (81.1%) أنّ شعورهم بالأمان الشخصيّ تراجَعَ بسبب الحرب، وأفاد 61% منهم بأنّ إحساسهم بالأمان الشخصيّ تراجَعَ إلى حدّ كبير.

استطلاع مركز دراسات الأمن القوميّ يوضّح أنّ الشعور بالأمان الشخصيّ لدى الجمهور العربيّ أدنى بكثير ممّا لدى الجمهور اليهوديّ. ففي الإجابة عن كيفيّة تأثير الحرب على شعورك بالأمان الشخصيّ، أجاب 24% من الجمهور اليهوديّ أنّهم يشعرون بإحساس عالٍ من الأمان الشخصيّ، وَ47% بإحساس معتدل، وَ28% بإحساس متدنٍّ. في المقابل، يشعر 12% فقط من المجتمع الفلسطينيّ بدرجة عالية من الأمان الشخصيّ، وَ30% بشعور معتدل من الأمان الشخصيّ، وقرابة النصف (49%) بتراجع الشعور بالأمان. معنى هذا أنّ نسبة المستطلَعين العرب الذين يشعرون بتراجع الأمان الشخصيّ تبلغ ضعفَيْ نسبة المستطلَعين اليهود، على الرغم من أنّهم ليسوا طرفًا مباشرًا في الحرب.

يمكن التخمين أنّ مَصْدر الشعور بعدم الأمان لا يرتبط فقط بالحرب وتداعياتها، بل كذلك بسبب تعامل أجهزة الدولة الأمنيّة وسياسات الحكومة. فقد عبّر 41% من الجمهور العربيّ عن خوفهم من الاعتقال من قِبل الشرطة والأجهزة الأمنيّة، مقابل 48.5% لا يخشَوْن الاعتقال، وَفقًا لاستطلاعات مركز دراسات الأمن القوميّ في جامعة تل أبيب. وأفاد غالبيّة المشاركين (58.1%) بأنّهم لا يشعرون بالارتياح عند مشاركة الآخرين مشاعرهم وآراءهم بشأن الوضع العامّ في البلاد والحرب على غزّة (وإن كان هؤلاء قريبين منهم -كأفراد العائلة والأصدقاء، على سبيل المثال). كثيرون منهم (42.4%) يقولون إنّهم لا يشعرون بالارتياح للقيام بذلك على الإطلاق.

عدم أمان اقتصاديّ

الشعور بعدم الأمان والقلق لا يقتصر فقط على الجانب الأمنيّ وحرّيّة التعبير عن الرأي، بل طال كذلك الجوانب الاقتصاديّة والمعيشيّة. في جانب الضرر الاقتصاديّ، قال نحو ثلثي المستطلَعين العرب (64.9%) في استطلاع كونراد أدنوار إنّ أوضاعهم الاقتصاديّة تضرّرت بسبب الحرب. ثلثهم (34.3%) قالوا إنّ وضعهم الاقتصاديّ لا يزال كما كان قبل الحرب.

استطلاع مركز دراسات الأمن القوميّ يوضّح الفرق في الضرر الاقتصاديّ بين المواطنين العرب واليهود منذ بداية الحرب؛ إذ قال 38% من المستطلَعين اليهود إنّ وضعهم الاقتصاديّ ساء، وَ59% منهم يعتقدون أنّ وضعهم الاقتصاديّ لم يتغيّر. في المقابل، أجاب أكثر من نصف المستطلَعين العرب (54%) بأنّ وضعهم الاقتصاديّ ساء، وَ36% بأنّ وضعهم الاقتصاديّ لم يتغيّر.

المعطَيات توضّح أنّ المجتمع العربيّ أكثر عرضة للضرر الاقتصاديّ، ولا سيّما في أوقات الطوارئ: أوّلًا لكونه أضعف اقتصاديًّا من المجتمع الإسرائيليّ؛ ثانيًا لأنّ غالبيّة الفروع الاقتصاديّة المتضرّرة كانت فروع البناء والبنى التحتيّة والزراعة، وقسم من الصناعة، أي الفروع الاقتصاديّة التقليديّة التي فيها تمثيل مرتفع للمواطنين العرب، ناهيك عن مقاطعة المجتمع اليهوديّ للبلدات العربيّة إبّان الأزمات والحروب، ممّا يزيد من الضرر الاقتصاديّ للمواطنين العرب.

هذه المعطيات توضّح الشعورَ العامّ بالقلق لدى المجتمع العربيّ، والإدراكَ أنّ حرّيّة التعبير مقيَّدة نتيجة الملاحقات السياسيّة التي تعمل بها المؤسّسة الأمنيّة (ومنها اعتقال وتوقيف العشرات من المواطنين العرب بسبب نشر مواقف معارِضة للحرب ومتعاطفة مع الأبرياء في غزّة)، وتراجُعَ الأوضاع الاقتصاديّة لدى المواطنين العرب.

مؤشّرات لعدم استقرار

مشاعر عدم الأمان الشخصيّ والعامّ انعكست في مواقف المجتمع العربيّ في سؤال التفاؤل حول مستقبل البلاد وإمكانيّة الهجرة. استطلاع المعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة فحص درجة التفاؤل والتشاؤم بشأن مستقبل دولة إسرائيل. في بداية الحرب، قال قرابة 68% من اليهود إنّهم متفائلون بشأن مستقبَل الدولة، وفي استطلاع بداية كانون الأوّل ارتفعت نسبتهم إلى 72%؛ بينما عبّر 40% من المستطلَعين العرب في بداية الحرب (في استطلاع 10 وَ15 تشرين الأوّل) عن تفاؤلهم بشأن مستقبَل الدولة، ومن ثَمّ تراجع إلى 27% فقط في استطلاع كانون الاوّل.

يمكن تفسير تراجع التفاؤل لدى المجتمع العربيّ على أنّه نتيجة للأجواء العامّة التي تنامت مع بدء الحرب. من ذلك: حالة الهلع والخوف الجماعيّ في المجتمع الإسرائيليّ؛ تصريحات القيادات السياسيّة والأمنيّة التي تضمّن بعضها تهديدات تجاه المواطنين العرب؛ أجواء الترهيب والإخراس والملاحَقة تجاه المجتمع العربيّ؛ تطوُّرات الحرب الميدانيّة ومَشاهد القتل والدمار. كلّ هذا يؤثّر على الشعور العامّ بمستقبل قاتم لدى المواطنين العرب.

هذا الشعور يعكس واقع الصدمة الجماعيّة والفرديّة التي يعيشها المجتمع العربيّ، وتجارب المجتمع الفلسطينيّ منذ النكبة حتّى الآن، وَفقًا للمعالِـجة النفسيّة إيناس عودة - حاجّ. ترى عودة - حاجّ أنّ الحرب على غزّة تزيد التحدّيات التي تواجه المجتمع العربيّ، وَ"المحاوَلات العنيفة والمستمرّة من قِبل الدولة للترهيب والملاحقة والإخراس [...] تثير فينا شعورًا من الخوف الفرديّ والمجتمعيّ، وتعيد إحياء مستويات متعدّدة للصدمة المستمرّة التي عشناها ونعيشها منذ النكبة، ممّا يزيد شعورنا بالخوف والقلق والترقُّب والشعور بعدم الأمان والعجز على المدى القصير".[6]

هذه المعطَيات والواقع تفسّر كذلك الارتفاع في نسبة المواطنين العرب الراغبين (وإن نظريًّا، وإذا سنحت الفرصة) بالهجرة من البلاد. فقد سأل استطلاع المعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة "إذا أتيحت لك الفرصة للحصول على الجنسيّة الأمريكيّة أو جنسيّة دولة أخرى في الغرب، فهل تفضّل الانتقال والعيش هناك أم تفضّل البقاء والعيش في إسرائيل"؟ أغلبيّة كبيرة من المستطلَعين اليهود يفضّلون البقاء في إسرائيل (80.5%)، بينما كانت النسبة أقلّ لدى المستطلَعين العرب (59%). في المقابل، 8% من اليهود وَ26% من العرب قالوا إنّهم يفضّلون الانتقال للعيش في الخارج. وَفقًا لـمُعِدّي الاستطلاع، نسبة الراغبين في الهجرة من المجتمع اليهوديّ هي الأدنى في العَقد الماضي. أمّا لدى المجتمع العربيّ، فتعكس النسبة انخفاضًا في نسبة الراغبين في الهجرة، بعد ارتفاعها على نحوٍ بالغ في حزيران الماضي، أي في ذروة الاحتجاج على الخطّة الحكوميّة لتقييد القضاء، وذروة حوادث القتل وحوادث العنف داخل المجتمع العربيّ. بذا فإنّ مجريات العام الأخير، وهَيْمنة اليمين المتطرّف على الحكومة والسلطات، شكّلت تهديدًا وعدم يقين لدى المجتمع العربيّ، فضلًا عن الحرب الحاليّة على غزّة.

تأثير الحرب على العلاقات بين العرب واليهود في إسرائيل

وَفقًا لاستطلاع معهد كونراد أدنوار، الحرب على غزّة أثّرت على العلاقات بين المواطنين العرب واليهود. فقد وجد الاستطلاع أنّ أغلبيّة كبيرة من المشاركين في الاستطلاع (69.8%) تعتقد أنّ التضامن بين العرب واليهود قد ضعف بعد أحداث السابع من تشرين الأوّل، ويعتقد نصفهم تقريبًا (49.6%) أنّ التضامن قد ضعف إلى حدّ كبير. 11.9% فقط يعتقدون أنّ التضامن قد تَعزَّزَ بالفعل، بينما 17.1% يعتقدون أنّ التضامن بين العرب واليهود لا يزال كما كان عليه قبل الحرب. من ناحية أخرى، أفاد غالبيّة المشاركين في الاستطلاع (58.9%) أنّهم نظرًا للوضع العامّ في البلاد يخشَوْن المضايقات التي يمارسها المواطنون اليهود.

تُعزِّز هذه المعطيات نتائج استطلاع مركز دراسات الأمن القوميّ. فقد وجد هذا الاستطلاع أنّ أكثر من نصف الجمهور اليهوديّ (50%) والعربيّ (54%) يشعرون بتغيُّر إلى الأسوأ في علاقاتهم منذ بداية الحرب، وأنّ ثمّة فجوة كبيرة بين مواقف الجمهور اليهوديّ والجمهور العربيّ في ما يتعلّق بالطريقة التي تمارس بها دولة إسرائيل القيود على حرّيّة التعبير خلال الحرب؛ إذ يعتقد ثلثا الجمهور اليهوديّ (66%) أنّ الدولة تتصرّف على نحوٍ مناسب، بينما يعتقد 12% فقط عكس ذلك. في المقابل، يعتقد 23% من الجمهور العربيّ أنّ دولة إسرائيل تتصرّف على نحوٍ مناسب، بينما يعتقد 57% عكس ذلك.

أمّا استطلاع معهد أكورد في الجامعة العبريّة في القدس (نُفِّذ بعد نحو أسبوعين من اندلاع الحرب)، فقد فحص إسقاطات الحرب على العلاقات العربيّة اليهوديّة، ووضّح أنّ نحو 90% من الجمهور اليهوديّ في إسرائيل يرى - باحتمال كبير ومتوسّط - أنّه قد تندلع أعمال عنف بين اليهود والعرب في المستقبل القريب، كما حدث في أيّار عام 2021. وتبلغ النسبة المقابلة لدى الجمهور العربيّ نحو 70%.

المواقف تجاه الحرب وأسباب اندلاعها

يوضّح استطلاع مركز كونراد أدنوار أنّ الجمهور العربيّ منقسم بشأن موضوع المسؤوليّة عن اندلاع الحرب. يرى قرابة 38% من المستطلَعين أنّ المسؤوليّة تقع على الجانبين بالتساوي، والباقون منقسمون تقريبًا؛ إذ يحمّل 24.2% حركة "حماس" المسؤوليّة، وَ21.4% يحمّلون إسرائيل المسؤوليّة. بِذا لا نرى موقفًا واضحًا تجاه المسؤوليّة عن اندلاع الحرب.

فضلًا عن هذا، ينقسم الجمهور العربيّ بشأن ما إذا كان الردّ الإسرائيليّ على العمليّة التي قامت بها "حماس" في الـ7 من تشرين الأوّل مبرَّرًا أَم غير مبرَّر. 47.4% من المستطلَعين يبرّرون الردّ الإسرائيليّ من حيث المبدأ، بينما لا يبرّره 44% منهم.

أمّا استطلاع المركز لدراسات الأمن القوميّ، فقد وجد أنّ نحو ثلث الجمهور العربيّ (34%) يؤيّد هدف الحرب لإسقاط نظام "حماس" في غزّة إلى حدّ بعيد. ويؤيّد 17% من الجمهور العربيّ هذا الهدف إلى حدّ ما، ولا يؤيّده على الإطلاق 10%. وأجاب 39% (وهي نسبة كبيرة من الجمهور العربيّ) بـِ "لا أعرف". في المقابل، 96% من الجمهور اليهوديّ يؤيّدون الحرب تأييدًا كبيرًا أو إلى حدٍّ ما، في حين أنّ 3% يؤيّدونها إلى حدّ صغير أو لا يؤيّدونها على الإطلاق.

توضّح المعطيات أنّ المجتمع العربيّ لا يتبنّى تلقائيًّا خطاب "حماس" بشأن الحرب، كما أنّه لا يتبنّى الخطاب الإسرائيليّ، وأنّه مرتبك سياسيًّا تجاه الأحداث ونتائجها، وتوضّح كذلك وجود فروق بين موقف المجتمع العربيّ وموقف المجتمع اليهوديّ تجاه الحرب. فضلًا عن هذا، لا يمكن التعامل مع الإجابات عن هذه الأسئلة دون الالتفات إلى شعور المجتمع العربيّ بعدم الأمان بسبب الحرب، وإلى تقييد حرّيّة التعبير الذي يمارَس تجاه المواطنين العرب. بالطبع لا يمكن تجاهل عوامل الخوف والحذر لدى المستطلَعين العرب في الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة - ولا سيّما في هذه الأجواء.

مستقبَل الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ

أدّت الحرب على غزّة إلى إعادة الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ وسُبُل حلّه إلى الأَجِنْدة السياسيّة المحلّيّة والعالميّة بقوّة. على الرغم من الحرب ونتائجها الصعبة والمدمّرة، ومَشاهد القتل والدمار المستمرّة، والترهيب والإخراس المعمول بهما تجاه المجتمع العربيّ، كلّ ذلك لم يترجَم حتّى الآن بتغيُّرات في المواقف السياسيّة لدى المواطنين العرب في القضايا الجوهريّة.

طرح استطلاع مركز كونراد أدنوار على المشاركين في الاستطلاع السؤال التالي: ما هو الحلّ الواقعيّ للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ؟ أجاب نصفهم (52.2%) أنّ الحلّ هو حلّ الدولتين على حدود 1967، وربعهم (25.5%) يعتقدون أنّه ليس ثمّة حلّ سياسيّ في الأفق. قلّة من المستطلَعين (14.4%) يعتقدون أنّ الحلّ الحقيقيّ هو دولة واحدة من البحر إلى النهر يتشارك فيها الفلسطينيّون واليهود. هذه النتائج شبيهة إلى حدّ بعيد بنتائج استطلاعات سابقة فحصت هذا السؤال، من بينها استطلاعان أجراهما "مدى الكرمل" في آذار عام 2023 وفي آذار عام 2022، إذ دعم خيارَ حلّ الدولتين قرابةُ 50% من المستطلَعين. من هنا، لا نرى تغيُّرًا جِدّيًّا في مواقف المجتمع العربيّ السياسيّة نتيجة للحرب حتّى الآن.

ما زال المجتمع العربيّ يرى أنّ الحلّ السلميّ هو الأكثر مناسَبةً لحلّ القضيّة الفلسطينيّة ويرفض استعمال العنف. فقد قال نحوُ نصف المستطلَعين (49.5%) في استطلاع مركز كونراد أدنوار إنّ عمليّة "حماس" في الـ7 من تشرين الأوّل لا تسهم في حلّ القضيّة الفلسطينيّة، وَ20.8% يعتقدون أنّ العمليّة تسهم في حلّ القضيّة الفلسطينيّة، وَ19.3% يرَوْن أنْ ليس لها تأثير أيًّا كان بشأن حلّ القضيّة الفلسطينيّة.

ما هي القضيّة الأهمّ لدى للمجتمع العربيّ اليوم؟

على الرغم من حدّة الأحداث وحالة الطوارئ وتزايد الشعور بعدم الأمان الشخصيّ، وعودة القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة بقوّة، ما زال المجتمع العربيّ يرى أنّ القضايا المدنيّة المعيشيّة هي القضايا الأكثر أهمّيّة بالنسبة له؛ إذ يعتقد نحوُ نصف المشاركين في استطلاع كونراد أدنوار (54.4%) أنّ القضيّة الأكثر أهمّيّة لدى المجتمع العربيّ هي مشكلة الجريمة والعنف. ليس هنالك سوى ما يقارب 15% يرَوْن أنّ حلّ القضيّة الفلسطينيّة هو الأكثر أهمّيّة، بعدها تأتي قضيّة التنظيم والتخطيط والبناء في البلدات العربيّة (14.7%)، فالوضع الاقتصاديّ (10.5%)، ثمّ قضيّة التشغيل والفقر (9%)، وبعدها تأتي قضيّة التعليم والتعليم العالي (6%). وهي نتائج شبيهة بغالبيّة استطلاعات الرأي العامّ التي تناولت هذه الجوانب في العَقد الأخير.

وَفقًا لنتائج استطلاع المعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة، يشعر 70% من المواطنين العرب بأنّهم جزء من دولة إسرائيل ومشكلاتها، مقابل 94% من اليهود، بينما كانت هذه النسبة لدى المجتمع العربيّ في حزيران الماضي 48%. إذّاك (في حزيران) سادت الاحتجاجات ضدّ الخطّة الحكوميّة لتقييد القضاء، وكان المواطنون العرب خارج تلك الاحتجاجات تمامًا، وهو ما زاد مشاعر الغربة والعزلة إزاء الحالة السياسيّة في البلاد. يعكس موقف المواطنين العرب هذه الحالة اليوميّة التي يعيشونها؛ إذ لقد تأثّرت حياتهم بالكامل من حالة الحرب وعمليّة طوفان الأقصى: الشعور بالأمان الشخصيّ؛ الحالة الاقتصاديّة؛ الحالة السياسيّة؛ العلاقات بين المواطنين العرب والمواطنين اليهود. معنى هذا أنّ ما يحدث في الدولة يؤثّر تأثيرًا فوريًّا ومباشرًا على المواطنين العرب بطبيعة الحال؛ فهُم لا يعيشون في بوتقة منفصلة عن بقيّة الدولة والمنطقة.

خاتمة

على وجه العموم، استخدام أداة استطلاعات الرأي العامّ في أوقات الحرب والطوارئ لفهم مواقف المواطنين ليس بالأمر البسيط. ففي هذه الظروف، لا يمكن تهميش إمكانيّة انحياز مواقف المستطلَعين نتيجة تأثير البيئة المحيطة. فكم بالحريّ عند الحديث عن مواقف المجتمع العربيّ في الحرب الحاليّة على غزّة، المحاطة بسياسات ترهيب وتخويف وإخراس، وملاحَقات سياسيّة علنيّة لكلّ مواطن عربيّ يبدي موقفًا مُناهضًا ورافضًا للقتل والدمار، ويعبّر عن موقف أخلاقيّ ضدّ الحرب؟! في الحرب الحاليّة، أدوات الرقابة والوشاية على المواطنين العرب لا تقتصر على أجهزة الأمن، بل طالت كذلك المؤسَّسات الإعلاميّة والأكاديميّة والزملاء في أماكن العمل والجيران.

بعضهم يعتبر مواقف المواطنين العرب في استطلاعات الرأي العامّ بشأن الحرب وإسقاطاتها مواقفَ عقلانيّةً ورزينة، تعكس مخاوفَ حقيقيّة تجاه الوضع القائم، وتمسُّكَهم بالحلول السلميّة ورفض العنف.[7] هذه المواقف قوبلت بنوع من التفاجُؤ والإعجاب من قِبَل عدد من المحلّلين والسياسيّين اليهود.[8] على الجملة، يمكن القول إن هذا التفاجُؤ وهذا الإعجاب يعكسان جهلًا بمواقف المجتمع، والصورةَ النمطيّة الذاتيّة التي بناها هؤلاء عن المجتمع العربيّ. علاوة على هذا، لا تعكس المعطَيات تغيُّرًا جوهريًّا في مواقف المجتمع العربيّ، وهي - إلى حدّ بعيد - استمرار لمواقف سابقة؛[9] إذ لم يعبّر المجتمع العربيّ في السابق عن مواقف متطرّفة لا تجاه الدولة ولا تجاه المجتمع اليهوديّ، وعارض الحروب السابقة التي شنّتها إسرائيل على غزّة، ولم يرَ العنف أداة لحلّ الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وطبعًا يعارض الحرب الهمجيّة تجاه غزّة وقتل المدنيّين والأبرياء.

في واقع الأمر، لا يمكن تجاهل الأجواء العامّة الحاليّة التي تؤثّر على مواقف المجتمع العربيّ، وتدفع في اتّجاه اتّخاذ درجات حذر أعلى من الحالات العاديّة، وبخاصّة في تعامل المستطلَعين مع أسئلة ذات طابع سياسيّ أو تعبير عن مواقف تجاه الحرب ونتائجها، قد تكون غيرَ مرغوب بها لدى المؤسَّسة والمجتمع الإسرائيليّ. في هذه الجوانب، علينا قراءة النتائج بتحفُّظ وحذر بالغَيْن. ففي الحرب الحاليّة، ثمّة تعطيلٌ شبه تامّ للأدوات الديمقراطيّة الشكليّة المستعمَلة في إسرائيل (منها حرّيّة التعبير عن الرأي والحقّ في التظاهر ومعارضة الحرب)، وتصعيدٌ خطير في تعامل الدولة والمؤسَّسات الأمنيّة والمجتمع الإسرائيليّ تجاه المواطنين الفلسطينيّين، وإنتاجٌ لحالة خوف وترهيب، وسياساتُ إخراس تنتهجها المؤسَّسة تجاه المجتمع العربيّ منذ اليوم الأوّل للحرب. هذه الأجواء تؤثّر وتنعكس - على ما يبدو - في مواقف المجتمع العربيّ في استطلاعات الرأي التي تُجرى وقت الحرب، ويتجاوب معها المواطنون العرب بحذر شديد ووعي للحالة الراهنة.


[1] رودنتكسي، أريك. (2023، 3 كانون الأوّل). استطلاع متعمّق لمواقف المجتمع العربيّ على خلفيّة الحرب بين إسرائيل وحماس. برنامج كونراد أدنوار للتعاون اليهوديّ العربيّ. [بالعبريّة]

[2] هرمان، تمار؛ عناﭬـي، أور. (2023، 10 تشرين الثاني). استطلاع "سيوف حديديّة": رقم قياسيّ منذ 20 عامًا في الشعور بالانتماء للدولة بين اليهود والعرب على حدّ سواء. المعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة. [بالعبريّة]

[3] ديتش، موران، وآخرون. (2023، 27 تشرين الثاني). نتائج استطلاع العلاقات اليهوديّة العربيّة. مركز دراسات الأمن القوميّ. [بالعبريّة]

[4] كشتي، أور. (2023، 15 تشرين الثاني). الحرب تؤجّج كراهيَة اليهود للعرب. 90% يتوقّعون صراعًا داخليًّا. هآرتس. [بالعبريّة]

[5] وَحدة السياسات. (2023، تشرين الثاني). الحرب على غزّة: سياسة الإخراس والترهيب والملاحَقة تجاه الفلسطينيّين في إسرائيل. تقدير موقف. مدى الكرمل.

[6] عودة - حاجّ، إيناس. (2023). بين عُنفَيْن: المجتمع الفلسطينيّ بين الحرب وسياسات الإخراس - قراءة سيكولوجيّة. أوراق فلسطينيّة، 11(2). ملفّ الحرب على قِطاع غزّة. مدى الكرمل.

[7] على سبيل المثال: ناﭬـوت، دورون. (2023، 13 كانون الأوّل). نوﭬـيك، لو تحدثت مع عرب أكثر، ما كنت ستفاجأ. هآرتس. [بالعبريّة]

[8] نوﭬـيك، عكيـﭭـا. (2023، 10 كانون الأوّل). لقد تغلب العرب على التوقعات الصعبة وكذلك على بن ﭼﭭـير. هآرتس. [بالعبريّة]

[9] على سبيل المثال:

- أطرش، عاص. (2014). استطلاع رأي حول" تأثيرات الحرب على غزّة على المواطنين العرب الفلسطينيّين في إسرائيل". قراءات في الحرب الإسرائيليّة على غزّة 2014. ملفّات مدى، رقم 3.

- صعابنة، عميد. (2015). تراجع الشعور بالأمان، وتحميل الحكومة الإسرائيليّة مسؤوليّة اندلاع المواجهات الحاليّة. فلسطينيّو الداخل وهبّة أكتوبر 2015. ملفّات مدى، رقم 7.

التعليقات